Wednesday 19 December 2012

الرسالة البطريركية


"وهذه علامة لكم " (لو 2/11)

ببركة صلوات غبطة أبينا البطريرك الكاردينال الأنبا أنطونيوس نجيب وباسمه، من الأنبا كيرلس وليم، المدبر البطريركي، إلى أخوتنا الآباء المطارنة والأساقفة والقمامصة والكهنة والرهبان وسائر أبناء الكنيسة القبطية  الكاثوليكية، السلام والنعمة.

أعلن الملاك للرعاة البشرى السارة " لا تخافوا ! ها أنا ابشركم بخبر عظيم يفرح له جميع الشع: ولد لكم اليوم فى مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. واليكم هذه العلامة: تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود " (لو2/ 10-11). والكنيسة تسمعنا هذه البشرى بعينها، اليوم، إذ أنها أعلنت لجميع الاجيال على مر الدهور.
هل هناك شيء مجيد أو خارق العادة أو استثنائي فى تلك العلامة، التى أعطاها الملاك للرعاة ؟ كلا! فأنهم سيجدون طفلاً مقمطاً، يحتاج، ككل الأطفال، إلى عناية أمه، طفلاً مولوداً فى حظيرة، وليس على مهد وثير بل فى مذود.
وهذه هى علامة الله : الطفل فى احتياجه للعون وفى فقره المدقع، ولسوف يتمكن الرعاة، فقط من خلال القلب النقى، أن يروا فى هذا الطفل تحقيق وعد اشعيا، الذى قال، قبل حوالى 700 سنة من ذلك اليوم، "ولد لنا ولد، أعطى لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه" (اش9/5).
ونحن أيضاً، اليوم، مدعوون من خلال مقطع الإنجيل الذى تلى على مسامعنا، أن نسير، بالقلب النقي، لملاقاة الطفل الموضوع فى المذود. إن ملاك الرب، الذي بشر الرعاة بهذا الخبر العظيم، يبشرنا نحن ايضاً به، فى هذه الليلة، وكما دعاهم يدعونا نحن أيضاً .
علامة البساطة والتواضع:
علامة الله هى البساطة، علامة الله هى الطفل، علامة الله هى أن يصبح صغيراً من أجلنا. هذه هى طريقته فى الملك، فهو لا يأتي بالعزة والعظمة الخارجية، بل يأتي كطفل أعزل ومحتاج إلى عوننا. لا يريد أن يسحقنا بقوته، بل أن ينزع منا الخوف أمام عظمته. إنه يطلب محبتنا، ولهذا يصبح  طفلاً، لا يريد منا شيئاً آخر سوى محبتنا، التى عن طريقها نقدر أن ندخل، ببساطة القلب، فى افكاره وإرادته ومشاعره. يجدر بنا اذن أن نتعلم أن نعيش معه، وأن نمارس على مثاله تواضع التضحية، التي تشكل عنصراً جوهرياً من المحبة. فقد صار الله صغيراً، لنستطيع أن نفهمه ونتقبله ونحبه.

لقد جعل الله كلمته مختصرة:
توقف آباء الكنيسة عند كلمة قالها اشعيا، واستشهد بها القديس بولس، تبين كيف أن سبل الله الجديدة انما كانت قد سبق اعلانها فى العهد القديم، فجاء نص الآباء بهذه الصيغة: " لقد جعل الرب كلمته مختصرة، لقد أوجزها " (راجع اش 10/22-33 ، رو 9/28) . وقد فسر الآباء هذه الآية على شكلين :
الشكل الأول: الابن نفسه هو الكلمة، اللوغوس. وقد صار الكلمة الأزلى صغيراً، لدرجة انه وضع فى مذود. أصبح الكلمة طفلاً حتى نتمكن من استيعابه. وهكذا يعلمنا الله محبة الصغار. يعلمنا أن نحب الضعفاء. ويعلمنا بهذا الشكل احترام الاطفال، فان طفل بيت لحم يوجه أنظارنا نحو الأطفال المجبرين على التسول، نحو الأطفال الذين يعانون البؤس والجوع، نحو الأطفال الذين لم يختبروا الحب. وفى جميع هؤلاء الأطفال، نجد طفل بيت لحم، الذى يضطرنا إلى اختيار، إلى تحيز، أعني أن ننحاز إلى الله الذى أصبح صغيراً. فلنصل، هذه الليلة، لكى يلمس حب الله المتألق جميع أولئك الأطفال بلطف، ولنطلب منه تعالى أن يساعدنا، لكى نقوم بواجبنا، حتى تحترم كرامة الأطفال، فليشرق على الجميع نور المحبة، التى يحتاجها الإنسان أكثر من كل الأمور المادية الضرورية للعيش .
الشكل الثانى: رأى الآباء "ان الله قد جعل كلمته مختصرة ". فمع مر العصور، أصبحت الكلمة، التى أراد الله أن يمنحنا عبر أسفار الكتاب المقدس، طويلة ومعقدة ليس فقط للبسطاء والأميين، بل أيضاً وبشكل أكبر، لدارسي الكتب المقدسة والمثقفين. فقد اختصر يسوع الكلمة، وفتح عيوننا على بساطتها ووحدتها، عندما قال ان كل ما تعلمه الشريعة والأنبياء يتلخص فى هذه الكلمة " أحبب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك، وأحبب قريبك كنفسك" (مت22/37).هذا هو كل شئ: فعل الإيمان يختصر فى فعل الحب الفريد، الذى يضم الله والبشر.
تساؤل: ربما يتساءل البعض، كيف يمكنا أن نحب الله من كل فكرنا ونحن لا نكاد أن ندركه بقوانا العقلية ؟ كيف يمكنا أن نحبه بكل قلبنا وبكل نفسنا، بينما قلبنا يلمحه من بعيد، ويشعر بالكثير من التناقضات التى تحجب وجهه عنا ؟
الاجابة: هنا يلتقى الشكلان اللذان "اختصر" فيهما الله كلمته. فهو ليس بعيداً ولا مجهولاً، وليس من المستحيل على قلبنا البلوغ اليه، فقد صار طفلاً من أجلنا، ومحا بذلك كل إبهام. لقد أصبح قريباً، وجدد صورة الانسان، التى غالبا ما تبدو لنا غير محبوبة. لقد أصبح الله عطية لأجلنا ووهب نفسه لنا. لقد كرّس وقتاً لأجلنا. إنه وهو الأزلي المتعالى عن الزمان، جذب زماننا إلى العلاء بالقرب منه. وقد أصبح الميلاد عيد الهبات والعطايا، لكى نقتدى نحن بالله الذى وهب نفسه لأجلنا. فلندع هذا الحدث يلمس قلوبنا ونفوسنا وأفكارنا ومع الهدايا، التى نقدمها والتى نتلقاها، ينبغى ألا ننسى العطية الحقيقية : أن نقدّم لبعضنا شيئاً من ذواتنا، بعضاً من وقتنا، فيولد فينا الفرح، ونحتفل حقاً بالعيد.
وإذ نقيم، فى هذه الأيام، العديد من الولائم فلتتذكر كلمة الرب:" إذا صنعت وليمة لا تدع الذى يدعونك بدورهم، بل أدع الذين لا يدعوهم أحد والذين لا يمكنهم ان يدعوك بدورهم" (لو14/12) بمعنى انه ينبغى أن نقدم الهدايا ليس فقط لمن نقبل منهم، إنما للذين لا يتلقون شيئاً من أحد، ولا يمكنهم ان يقدموا شيئاً لأحد.
شكل ثالث: هنا يظهر معنى ثالث للجملة القائلة "بأن الكلمة صار مختصراً" وصغيراً. لقد قيل للرعاة انهم سيجدون طفلاً موضوعاً فى مذود للحيوانات، الذين كانوا سكان الإسطبل الحقيقيين. ومن خلال قراءة نص اشعيا 1/3، استخلص آباء الكنيسة ان فى الاسطبل كان هناك ثور وحمار، وفى الوقت نفسه شرحوا النص على أن ذلك يرمز إلى اليهود والوثنيين – أعنى إلى البشرية جمعاء – الذين يحتاجون، كل على طريقته، مخلصاً. ذلك الإله الذي صار طفلاً، يحتاج إلى الخبز، إلى ثمر الأرض وثمر تعبه. ولكنه لا يعيش بالخبز وحده، بل يحتاج إلى قوت لنفسه، يحتاج إلى معنى يملأ حياته.وهكذا بالنسبة للآباء أصبح مذود الحيوانات رمزاً للمذبح، الذي عليه يوضع الخبز، الذي هو المسيح نفسه، غذاء قلوبنا الحقيقي. ونرى مرة اخرى كيف أصبح صغيراً: فتحت شكل القربان المتواضع فى كسرة الخبز يهبنا الرب ذاته.
كل هذا تتضمنه العلامة التي أعطيت للرعاة، والتي تعطى لنا أيضاً، الطفل الذى فيه صار الله صغيراً من أجلنا. فلنطلب من الرب أن يهبنا النعمة للنظر، فى هذه الليلة، إلى المغارة ببساطة الرعاة، لكى ننال الفرح الذى حملوه هم إلى بيوتهم (لو2/20). فلنطلب منه أن يمنحنا التواضع والإيمان، اللذين نظر بهما يوسف إلى الطفل، الذي حملته مريم من الروح القدس. فلنطلب منه أن يهبنا أن ننظر إلى الطفل بتلك المحبة، التى بها نظرت اليه مريم. ولنصل لكى يغيرنا ذلك النور عينه، الذي أنار الرعاة، ولكى يتحقق فى كل العالم ما ترنم به الملائكة فى تلك الليلة "المجد لله فى العلى وعلى الأرض للناس الحائرين رضاه".
خاتمة
إننا اليوم، متحدين مع قداسة الحبر الأعظم البابا بندكتوس السادس عشر، ومع جميع اخوتنا الذين يحتفلون معنا بهذا العيد، نرفع الصلاة الحارة، لكى يحل  السلام فى كل ربوع العالم ، وخاصة فى منطقة الشرق الأوسط، نصلى من أجل بلادنا الحبيبة مصر، لكى تنعم بالاستقرار والرخاء، نصلى من أجل السيد رئيس الجمهورية وكل من يعاونه فى السهر على خدمة أبناء الوطن، لكي تهدأ التوترات، ويعم التاخي، ويعمل الجميع على تغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية، كما نصلى، من أجل كافة الكنائس وسائر ابنائها.
ومع الكنيسة الجامعة نعيش سنة الإيمان، في الذكرى الخمسين للمجمع الفاتيكانى الثانى والعشرين لصدور كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ونتجاوب مع دعوة الكنيسة ،لكي نحاول، فى هذه السنة، إعادة اكتشاف فرح الإيمان بحماس، عبر اللقاء مع شخص يسوع المسيح، من خلال المواظبة على قراءة كلمة الله وتأملها وجعلها تتغلغل فى أعماقنا، فتصبح المحرك لأقوالنا وأفعالنا، فنصبح شهوداً لحب الله للجميع.
                        وكل عام وأنتم بخير
                                                                                           الأنبا كيرلس وليم                     
                                                                                   مطران أسيوط للأقباط الكاثوليك           
                                                                                           المدبر البطريركي

No comments:

Post a Comment